مَنْ الّذي يحدّد مواضيعنا؟ | عن الإنتاج البحثيّ في العلوم الاجتماعيّة

 

في العاشر من آب (أغسطس) عام 2021، نظّم «المجلس العربيّ للعلوم الاجتماعيّة»، في ذكرى تأسيسه العاشرة، حلقة نقاش ضمّت العديد من الطلبة من دول مختلفة من المنطقة العربيّ، تحت عنوان «العلوم الاجتماعيّة وصوت الجيل الجديد». ركّزت المداخلات على تلاقح المعرفة بين الدول العربيّة وتشابكها، وتكوين جماعة علميّة عربيّة مشتركة في ضوء الهموم المشتركة، بجانب مواضيع تتعلّق بتهميش صوت بعض الفئات في الإنتاج العلميّ، وركّزت أيضًا على رؤية الجيل الجديد حول مستقبلهم المهنيّ.

مراكز الأبحاث المرتبطة بالجامعات تحتلّ نسبة 45% من مراكز الأبحاث في المنطقة العربيّة، وبهذا تمثّل مراكز الأبحاث المرتبطة بالجامعة أعلى نسبة من مجمل المراكز البحثيّة...

إضافة إلى مداخلات أخرى كانت جديدة نسبيًّا بالنسبة إلى المواضيع البارزة في المجلّات العلميّة المحكّمة في المنطقة العربيّة، أو على الأقلّ هذا ما أشارت إليه تعليقات الجمهور، ميسّرين النقاش في معظمها.

انطلاقًا من مداخلات الجمهور، وإشارتهم إلى اختلاف المواضيع المطروحة عن تلك البارزة في المجلّات العلميّة المحكّمة؛ سيحاول هذا المقال فهم أهمّ الأسباب الّتي قد تؤدّي إلى تهميش بعض المواضيع وإقصائها، في الإنتاجات العلميّة المهتمّة بحقل العلوم الاجتماعيّة، فيما تبرز غيرها، محاولًا فهم مجتمع الباحثين في هذا الحقل؛ باعتباره أيضًا خاضعًا للبحث وللفهم المعرفيّ.

 

غياب مراكز الأبحاث المستقلّة

يشير التقرير الأوّل الّذي نشره «المجلس العربيّ للعلوم الاجتماعيّة» عام 2015، إلى أنّ مراكز الأبحاث المرتبطة بالجامعات تحتلّ نسبة 45% من مراكز الأبحاث في المنطقة العربيّة، وبهذا تمثّل مراكز الأبحاث المرتبطة بالجامعة أعلى نسبة من مجمل المراكز البحثيّة. كما يشير الرسم البيانيّ أدناه، الّذي أُرفق في نفس التقرير[1]:

 

 

لقد أثّرت هيمنة الجامعة على مراكز الأبحاث في تغييب مراكز الأبحاث المستقلّة، الّتي بلغت عام 2015 كما يتبيّن من إحصائيّات التقرير ما نسبته 34%، وهي نسبة منخفضة مقارنة بنسبة مراكز الأبحاث التابعة للجامعة. ساهمت هذه الهيمنة في خلق نوع من تقسيم العمل الصارم المبنيّ على أساس جيليّ بين الباحثين، بحيث احتلّ الأكاديميّون من الأجيال القديمة فضاءات التدريس أو مناصب البحث الرئيسيّة، فيما اقتصر دور الشباب إمّا على استهلاك المعرفة وإمّا على المشاركة المحدودة في إنتاج الشقّ التقنيّ منها؛ على سبيل المثال إجراء المقابلات الميدانيّة أو التعامل مع البيانات الأوّليّة.

لا تساهم هذه العلاقة فقط في فرض هذا التقسيم الجيليّ بين الباحثين، لكنّها تحدّ من أفق العمليّة المعرفيّة ومن تكاملها، وتخلق فجوة بين الحقل والخلاصات المنبثقة عنه، فالتكامل المعرفيّ بين أجزاء العمليّة المعرفيّة نفسها أصبح اليوم شرطًا أساسيًّا في معظم الحقول الاجتماعيّة، كما أنّ تجاوز هذا التقسيم الجيليّ يصبّ ليس في مصلحة الجيل الجديد من الباحثين فقط، ولكن في مصلحة العمليّة المعرفيّة نفسها، ويقلّل من احتمالات الإبقاء على جيل من الخبراء الأكاديميّين، البعيدين عن الحياة اليوميّة، وعن الراهن اليوميّ الّذي يدور جزء كبير من المعرفة الاجتماعيّة حوله.

بالعودة إلى مداخلات الباحثين الشباب في محاضرة الذكرى العاشرة لتأسيس «المجلس العربيّ للعلوم الاجتماعيّة»، وبتسليط الضوء على اختلاف المواضيع الّتي تُطْرَح بين الأجيال القديمة من الباحثين والأجيال الجديدة، تصبح على هذا النحو المواضيع الّتي يجب البحث عنها محدّدة من قِبَل الأكاديميّين من الأجيال القديمة، كما أنّ الإجابة عن أحد أسئلة المعرفة الأساسيّة، وهو: ما الّذي يجب البحث عنه؟ تصبح رهنًا لعمل الباحثين من الأجيال القديمة ووفقًا لاهتماماتهم؛ ممّا يغيّب صوت الجيل الجديد، ويضرّ بتكامل العمليّة المعرفيّة نفسها.

 

الثورات العربيّة نموذجًا

تشير الإحصائيّات والبيانات إلى أنّ مرحلة الثورات العربيّة كانت فاعلة في التحوّل في نمط المواضيع العلميّة، الّتي تُبْحَث في مجال العلوم الاجتماعيّة، ففي حين كانت أبرز المواضيع، الّتي تتصدّر المجلّات العلميّة العربيّة، تتعلّق بدراسة ظاهرة الشحّاذين، والجريمة، والأسرة، والتعليم المدرسيّ، تحوّلت هذه المواضيع بعد الأعوام 2011-2013، فاحتلّت مواضيع الثورة والربيع العربيّ والدولة والمرأة والشباب، احتلّت قائمة المواضيع الأبرز في المجلّات العربيّة[2].

العلوم الاجتماعيّة أدّت دور المراقب للمجتمع لا الفاعل فيه، إلّا أنّه يشير أيضًا إلى أنّ ثمّة نوعًا من الإقصاء لمواضيع الباحثين من الأجيال الجديدة.

قد يشير هذا التحوّل إلى أنّ العلوم الاجتماعيّة أدّت دور المراقب للمجتمع لا الفاعل فيه، إلّا أنّه يشير أيضًا إلى أنّ ثمّة نوعًا من الإقصاء لمواضيع الباحثين من الأجيال الجديدة.

لعلّ المشاهد الكثيرة القادمة من جميع المدن العربيّة، فترة الثورات، لشباب خرجوا إلى الشوارع يحملون مقاربات هويّاتيّة جديدة، أصبحت تنطوي أكثر من أيّ وقت سابق على مفاهيم مثل الحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة، وقد انعكست على مواضيع البحث نفسه، كما أشرنا سابقًا، وهو ما يثبت هذا الطرح؛ فبينما كانت مواضيع البحث الأبرز حتّى سنة 2013 بعيدة عن مفاهيم الثورة والدولة والحرّيّة، كان الشباب يستخدمونها في مقاربتهم في ميدان الاحتجاج في مدن عربيّة مختلفة. كان هذا واضحًا في الهتافات المستخدمة أثناء الاحتجاج؛ هذه المفاهيم كانت حاضرة أصلًا في مخيّلة الشباب، لكنّها غائبة عن المواضيع الأبرز في المنشورات البحثيّة العربيّة، ومن هنا فإنّ تغييب سرديّة الجيل الجديد في حقل العلوم الاجتماعيّة يحدّد المواضيع الّتي يجري البحث عنها، ويُقْصي مواضيع مهمّة في مخيّلة فئة معيّنة من الباحثين وحاضرة في حياتهم اليوميّة.

انطلاقًا من هذه المقولة؛ فإنّ وجود مركز أبحاث منفصل عن الجامعة يسائل هذا التقسيم الراسخ في الأكاديميّات العربيّة، ويفتح مساحات جديدة للجيل الجديد من الباحثين في إبراز سرديّاتهم ومواضيعهم، ويعزّز من فرصة استعراض كمّ أكبر من المواضيع الّتي تُدْرَس.

 

«الباحثون» بصفتهم مجتمعًا يجب بحثه

بالعودة إلى مفتتح المقالة، وتحديدًا إلى مداخلات الجمهور في حلقة النقاش الّتي عرضها «المجلس العربيّ للعلوم الاجتماعيّة»، والتفاتهم إلى اختلاف المواضيع المطروحة من قِبَل باحثين شباب عن تلك المطروحة في العادة، فإنّ هذا المقال يمثّل التفاتة أوّليّة على المواضيع البارزة في حقل العلوم الاجتماعيّة، في محاولة لفهم أسباب بروزها، وأسباب تهميش مواضيع أخرى.

وجود مركز أبحاث منفصل عن الجامعة يسائل هذا التقسيم الراسخ في الأكاديميّات العربيّة، ويفتح مساحات جديدة للجيل الجديد من الباحثين في إبراز سرديّاتهم ومواضيعهم...

هذه المقالة دعوة للتعامل مع حقل العلوم الاجتماعيّة أو «مجتمع الباحثين»؛ باعتباره مجتمعًا خاضعًا للبحث أيضًا، أو ما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسيّ بيير بورديو «علم اجتماع المعرفة»، بمعنى محاولة ملاحقة «مجتمع الباحثين» بكونهم مجتمعًا خاضعًا للدراسة وللفهم؛ في سبيل الإجابة عن أسئلة أخرى قد تكون أكثر أهمّيّة لفهم العمليّات اليوميّة في المؤسّسة الأكاديميّة العربيّة، وآليّات التفاوض على عمليّة إنتاج المعرفة نفسها؛ أي – وباختصار - فهم كيف تعمل علاقات السلطة في الممارسة العلميّة اليوميّة، وكيف تكتسب الشرعيّة لبعض الباحثين لتحديد المواضيع العلميّة الّتي يجب البحث عنها، وكيف تكون ممارستها، وكيف تتجلّى الفروق بين الأجيال المختلفة على طرق اكتساب هذه الشرعيّة.

 


إحالات

[1] محمّد بامية، «العلوم الاجتماعيّة في العالم العربيّ: أشكال الحضور» (بيروت: المجلس العربيّ للعلوم الاجتماعيّة، 2015)، ص 28.

[2]  المرجع السابق، ص 39-66.

 


 

نور الدين أعرج

 

 

 

خرّيج علم اجتماع في «جامعة بير زيت»، وطالب ماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» في الجامعة نفسها.